سوانح تدبريةسورة الحشر

|1| مقدمة ونبذة عامة عن سورة الحشر

أيمن الشعبان

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

فإن من أعظم الحِكم والغايات من إنزال الآيات، التدبر والتفكر واستخراج الدرر والمكنونات، قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}[ص:29].

يقول ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين (1/450): فَلَيْسَ شَيْءٌ أَنْفَعَ لِلْعَبْدِ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ، وَأَقْرَبَ إِلَى نَجَاتِهِ مِنْ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ، وَإِطَالَةِ التَّأَمُّلِ فِيهِ، وَجَمْعِ الْفِكْرِ عَلَى مَعَانِي آيَاتِهِ.

قال سفيان بن عيينة رحمه الله (زاد المسير في علم التفسير، 2/370): إِنما آيات القرآن خزائن، فإذا دخلتَ خزانةً فاجتهد أن لا تخرج منها حتى تعرف ما فيها.

سورة الحشر آياتها أربعٌ وعشرون آية، وترتيبها في المصحف التاسعة والخمسين، وسميت بسورة الحشر لذكر الحشر فيها، ولها اسم آخر غير مشهور، كما في الصحيح عن ابن عباس حيث سماها بـ “سورة بني النضير”.

نزلت سورة الحشر بعد سورة البينة وقبل سورة النصر، وهي سورة مدنية نزلت في السنة الرابعة من الهجرة بعد غزوة بني النضير.

سورة الحشر نزلت لِتُكوِّن رؤية واضحة حول قضية الانتماء الحقيقي للإسلام، وتظهر فيه فاصلاً عملياً بين أهل الإيمان وأهل الكفر والشرك، وتؤكد في أحداثها كيف ينصر الله عباده المؤمنين ويخذل الضالين والمشركين.

تدعو السورة إلى تعظيم الله في القلوب بتحقيق الإيمان الحقّ المبني على معرفة أسمائه وصفاته، ليكون الانتماء إليه انتماءً صادقًا نابعًا من معرفة الربّ جلّ وعلا، لا من تقليدٍ أو انتماءٍ شكلي.

عرضت السورة قصة بني النضير لتجسِّد سنّة الله في نصر المؤمنين وخذلان الكافرين، مبيّنةً أن العزّة في الانتماء للإسلام، وأن مآل الكفر والباطل الهزيمة والخذلان.

تغرس السورة قوة العزيمة في النفوس المؤمنة، ببيان أن المعرفة بالله أساس الثبات والنصر، فبقدر ما يَعظُم الإيمان يشتدّ الانتماء وتتحقق العزة في الدنيا والآخرة.

تبين السورة أن أزمة الانتماء أصلها خلل في الاعتقاد، فإذا أدرك المؤمن خطر الشرك وتبرّأ من أهله، صفا انتماؤه وتجدد ولاؤه لله ورسوله والمؤمنين.

وإذ نعيشُ اليومَ أزمةً حقيقيةً في قضيةِ الانتماءِ، فإنَّ تدبُّرَ هذه السورةِ ضرورةٌ ملحّةٌ لفهمِ حقيقتِه، وتجليةِ الرؤيةِ حولَ معناهُ الصحيحِ، ليكونَ الانتماءُ العمليُّ الصادقُ للإسلامِ سلوكًا وموقفًا وحياةً. ومن هنا تنبثقُ موضوعاتُ السورةِ البارزةُ التي تُرسّخُ هذا الانتماءَ وتبني أركانَه في القلوبِ والعقولِ، على النحو التالي:

1- تنزيه الله تعالى وتعظيمه عمّا لا يليق بجلاله، وافتتاح السورة بالتسبيح والثناء عليه.

2- بيان سنّة الله في نصر المؤمنين وخذلان الكافرين من خلال عرض غزوة بني النضير وإخراجهم من ديارهم.

3- توضيح أحكام الفيء ومصارفه، وبيان عدالة التوزيع في الدولة الإسلامية.

4- الثناء على المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان؛ ترسيخًا لقيم الإخلاص والتضحية ووحدة الصفّ.

5- ذمّ المنافقين لكذبهم وموالاتهم اليهود، وفضح وعودهم الباطلة وجبنهم عند الشدائد.

6- كشف جبن اليهود وضعفهم، وأنّ رهبتهم من المؤمنين أشدّ من رهبتهم من الله.

7- تمثيل حال اليهود بالمكذّبين للرسل قبلهم في الخزي والهزيمة.

8- تمثيل حال المنافقين في موالاتهم لليهود بوصفٍ يُظهر خيانتهم وغرورهم.

9- الحثّ على تقوى الله والعمل للآخرة، والتحذير من النار، والترغيب في الجنة.

10- بيان عظمة القرآن الكريم وتأثيره البالغ في القلوب والعقول.

11- ختم السورة بتمجيد الله تعالى وذكر أسمائه الحسنى وصفاته العُلى؛ لترسيخ تعظيمه في النفوس وإحياء الانتماء الصادق لدينه.

تُبرز سورة الحشر نموذجين متقابلين من الناس: مُنتمٍ صادقٍ إلى الإسلام، ومتبرئٍ منه بفعله وموقفه.

وقد فصّلت السورة أصنافَ المؤمنين المنتمين حقًّا إلى هذا الدين في ثلاثة أجيال متتابعة:

1- المهاجرون: الذين تركوا الديار والأموال ابتغاء مرضاة الله، ونصروا دينه ورسوله، فاستحقوا وصف الصادقين.

2- الأنصار: الذين آوَوا المهاجرين وأحبوهم، وآثروهم على أنفسهم رغم حاجتهم، فكانوا المفلحين.

3- اللاحقون بهم من المؤمنين: الذين يدعون لإخوانهم السابقين بالمغفرة، ويطهرون قلوبهم من الغلّ والحسد، فاستحقوا القرب من رحمة الله.

بذلك تؤكد السورة أن الانتماء الحقيقي للإسلام لا يكون بالانتساب اللفظي، بل بالتضحية والإيثار ونقاء القلب والعمل الصادق في نصرة الدين.

 

19 جمادى الأولى 1447هـ

10-11-2025م

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى